الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: تمدد الكون
بقلم: علي الصلابي
قال تعالى:” وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات، آية : 47).
قبل سنوات قليلة لم يكن الناس يعرفون شيئاً عما يجري في الآماد البعيدة من السماء، فقد كانت أدوات الرصد عندهم محدودة المدى، تدرك وجود الكواكب، وتدرك وجود المجرات في السماء، وتقدر أنها تبلغ الملايين عداً، ولكنها لا تدرك أن هناك اتساعاً دائماً في الفضاء، وأن المسافات تتباعد بين بعض الأجرام السماوية وبعض، ولم يدركوا ذلك حتى اخترعوا مناظير من أنواع أخرى تخترق الأغوار البعيدة في الفضاء ومركبات فضاء تسجل حركة الأفلاك على أبعاد هائلة من الأرض وكلما اتسعت معارف الإنسان ومخترعاته وجد جديداً في كتاب الله لم يكن يفطن إليه، أو لم يكن يدرك أسراره.
تشير الآية الكريمة “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات، آية : 47) إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله منها:
أ – أن السماء بناء محكم التشييد، دقيق التماسك والترابط، وليست فراغاً كما كان يعتقد إلى عهد قريب وقد ثبت علمياً أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جداً من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة على هيئة هباءات من غبار دقيق الحبيبات، يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم، والصوديوم والبوتاسيوم، والتيتانيوم والحديد، بالإضافة إلى جزيئات من بخار الماء والأمونيا والفورمالدهايد وغيرها من المركبات الكيميائية وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم، فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لترتبط بينها في بناء محكم التشييد، متماسك الأطراف، وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين، بل في العقود المتأخرة منه.
ب ـ إن في الإشارة القرآنية الكريمة “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ” (الذاريات، آية : 47). أي: بقوة وحكمة واقتدار وإحكام صنعه، وانضباط حركاته ودقة كل أمر من أموره، وثبات سننه، وتماسك أجزائه، وحفظه من التصدع والانهيار، فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك ومضموناً هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء التي لا يدرك العلم الكسبي إلا جزءاً يسيراً منها ويحصي أن بهذا الجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون مجرة على أقل تقدير، بعضها أكبر كثيراً من مجرتنا “درب التبانة أو سكة التبانة” وبعضها أصغر قليلاً منها وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون، والعشرة ملايين، وملايين الملايين، وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة ” من الميلاد إلى الطفولة، والشباب، والكهولة، والشيخوخة ثم الوفاة ولما كان لأقرب النجوم إلينا “وهي شمسنا” توابع من الكواكب والكويكبات، والأقمار وغيرها، فإن القياس يقتضي أن يكون للنجوم الأخرى توابع قد اكتشف عدد منها بالفعل ويبقى الكثير منها مما لم يتم اكتشافه بعد.
جـ ـ التعبير القرآني “وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات، آية : 47). يشير إلى تلك السعة المذهلة، كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في القرن العشرين، حين ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا، وتقترب أحياناً من سرعة الضوء “المقدر بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية”.
س ـ تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كل من المادة والطاقة لتملأ المساحات الناتجة عن هذا التوسع، وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة ولكنها متصلة بغير انقطاع، فلا يوجد فيه مكان بلا زمان كما لا يوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة ولا يستطيع العلم حتى يومنا هذا أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون، بتلك السرعات المذهلة، ولا تفسير لها إلا الخلق من العدم.
ك: أدى إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن، فلابد وأن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة، وأدى ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من هذه النقطة الواحدة بعملية انفجار عظيم، وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية وكل ما له بداية فلابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية، كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم، لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة ـ من حيث لا يدرك العلماء وذلك ليملأ “في التو والحال” المسافات الناشئة عن تباعد المجرات بسرعات مذهلة، وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوى متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم، وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة في ثبات الكون والتي دافعوا عنها طويلاً، انطلاقاً من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته، لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق سبحانه.
هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون، وكيفية خلقه وإبداع صنعه، وحتمية نهايته، أمكن الوصول إليها من ملاحظة توسع الكون وهي حقيقة من أهم حقائق علم الفلك لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في القرن الماضي، ودار حولها الجدل حتى سلم بها أهل العلم أخيراً وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرناً أو يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق سبحانه وتعالى، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته، والذي أنزل لنا في خاتم كتبه، وعلى خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم عدداً من حقائق الكون الثابتة ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال سبحانه :” وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات، آية : 47).