صيدلي وماجيستير في علوم الأدوية
يزخر القرآن الكريم بالكنوز التي تنتظر في كل جيل من أجيال الأمة من يبحث عنها حتى يتوصل إليها أو يكشف عن بعضها من خلال مواكبة آخر المستجدات العلميه وعرضها على ما نصَّ عليه القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، يطيب لي في هذا السياق أن أدعوكم الى زيارة مزيدٍ من المحطات الكونيه في ظلال آي الذكر الحكيم فتفضلوا معي.
( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ *يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب)
يشير النص القرآني الى وجود علاقه بين الصلب أي عظام الظهر وبين الترائب وهي عظام الصدر وبين المني الدافق ومن أجل أن نتمكن من فهم تلك العلاقه علينا تتبع مسار الغدد المسؤوله عن افراز هورمونات الجنس.
يبدأ محور الخصوبه عند الذكر والانثى من الدماغ وبالتحديد من غدة تسمى "تحت المهاد"hypothalamus, وهي المحطه الاولى المسؤوله عن افراز الهورمونات المؤثره على صفات الجسم الجنسيه ومستوى الخصوبه أو العقم ،تفرز غدة "تحت المهاد" هورمونات Gnrh لتعطي تعليماتها الى غده موجوده أسفل منها تسمى الغده النخاميه pituitary gland عندئذٍ تفرز الغده النخاميه هورموني FSH و LH المسؤولان عن انتاج الهورمون الذكري " التوسترون " في الخصيتين عند الذكر أو إنضاج البويضات في المبايض عند الانثى . يتم إنتاج التوسترون عند الذكر بعد أن يحفز هورمون LH خلايا " لايدغ" Leydig cells المسؤوله عن انتاج التوسترون، والتوسترون ضروري لانتاج الحيوانات المنويه ومن أجل ان يتم ذلك على التوسترون ان يتوفر بكميات كبيره وهنا يبرز دور هورمون FSH والذي يحفز خلايا " سيرتولي " Sertoli cells " لتقوم بافراز بروتينات رابطه للتوسترون فترزمه وتجمعه وتوفر البيئه الغذائيه والمناعيه لعملية انتاج الحيوانات المنويه. لنعد الى اعلى حيث الغده النخاميه ففضلاً عن إفرازها لهورموني LH و FSH تفرز أيضا "الهورمون المحفز للغده الدرقيه" thyroid stimulating hormone وهو بدوره يتحكم بالغده الدرقيه Thyroid gland الموجوده اسفل الحنجره وامام القصبه الهوائيه ،تتحكم الغده الدرقيه بعملية حرق الجسم للطاقه عبر إفرازها لهورموني T3 و T4 ,هناك العديد من الدراسات والتي تربط بين تركيز T3, T4 وتاثيرهما على تمايز ونضوج مجموعة خلايا Leydig cells و Sertoli cells وبالتالي على عدد الحيوانات المنويه وكفائتها إن أي ارتفاع او إنخفاض مزمن في تركيز هذين الهورمونين (وسائر الهورمونات المذكوره ) من شأنه أن يتسبب في مشاكل في الخصوبه وحالات عقم .
كان يعتقد سابقاً ان وظيفة العظام تنحصر في دعم الجسم وتثبيته إلى أن كشفت الأبحاث العلميه والتي شرع فيها منذ اكثر من عقدين عن حقيقة افراز العظم للهورمونات ولذا فقد أضيف مفهوم جديد للهيكل العظمي فهو عباره عن غده كبيره تؤثر على اماكن خارج العظم فقد صار معروفاً ان خلايا العظم تفرز هورمون الاوستوكالسين osteocalcin والذي يؤثر على ضبط السكر في الجسم عن طريق تحفيز نمو خلايا بيتا في البنكرياس( تنتج خلايا بيتا الانسولين وتفرزه ) وبنفس الوقت يرفع من الإستجابة للانسولين لكل من الكبد والعضلات والدهن وما يهمنا في هذا السياق هو الكشف عن تأثير الاوستوكالسين على انتاج التوسترون من خلال تأثيره على خلايا " لايدغ " ويتم ذلك بمسار منفرد بمعزل عن محور الغده النخاميه وال FSH , LH ( هذه اول علاقه بين العظم والمني)
ماذا عن الماء الدافق ؟
أسفرت دراسات وابحاث تتالت منذ آواخر القرن الماضي عن إكتشاف منظومة أعصاب موجوده في الحبل الشوكي الموجود داخل العمود الفقري ( الصلب ) تقوم منظومة الاعصاب بضبط وتسيير عملية قذف المني عند الرجل ويطلق عليها ״ موّلد القذف الشوكي " Spinal Ejaculation Generator وهي عباره عن خلايا عصبيه متخصصه موجوده في الفقرات القطنيه ( في القسم السفلي للعمود الفقري ) وتقوم تلك الخلايا باستقبال ودمج المعلومات العصبيه الحسيه والحركيه الوارده عبر المسارات العصبيه من الاعلى من الدماغ ومن الاسفل من الجهاز التناسلي ومنطقه الحوض ومن ثم تقوم بتوزيع الاوامر لمركزين عصبيين مسؤوليين عن تشغيل الاعصاب المتحكمه بعملية القذف ، يقع اول مركز حيث تلتقي أخر فقره من فقرات الصدر T12 ( لاحظوا علاقة الترائب ) واول فقره من الفقرات القطنيه L1 يقوم هذا المركز بتحفيز " العصب الخثلي " hypogastric ganglion المسؤول عن تنفيذ أول مرحله من عملية قذف المني وهي مرحلة تجميع المني في الإحليل (قناة العضو الذكري) ، ينزل العصب الخثلي من الفقره الصدريه العاشره T10 ( لاحظوا مره أخرى العلاقه مع الترائب) وحتى الفقره القطنيه الثانيه ويتفرع ويتخذ طريقه حتى الخصيتين ويعطي أوامره بتفريغ الحويصلات وغدة البروستات من السائل المنوي ( خالي من الحيوانات المنويه)ثم يُضَّخ عبر الانابيب المنويه وبنفس الوقت تُضَّخ الحيوانات المنويه من مخازنها ( خلايا ابيديدمس Epididymis) فتختلط مع السائل المنوي في الإحليل
فتصير منيّاً وبنفس الوقت ينغلق صمام كيس البول لضمان عدم رجوع السائل المنوي الى الوراء ، أما المرحله الثانيه وهي قذف المني فيسَّيرها المركز الثاني الموجود في الفقرات العجزيه من الفقره الثانيه وحتى الرابعه S2-S4 ويقوم بارسال شارات عصبيه ترفع الضغط داخل الإحليل وتزيد من سريان الدم داخل انسجة العضو الذكري تتبعه انقباضات ورعشات متسلسله ليؤدي ذلك الى انفجار وقذف المني ( الماء الدافق )، ان التحكم في القذف عمليه معقده ومركبه تسلتزم تناغم الكثير من العوامل ويشترك فيها عدد كبير من الهورمونات والناقلات العصبيه وكلما تقدم الطب كلما عرفنا أكثر وأكثر عن تشابك وتعقيد السيمفونية المذهله بين اضلاع الصدر ( الترائب) والصلب ( العمود الفقري ) وبين المني المقذوف ( الماء الدافق) وإقتربنا أكثر وأكثر من فهم الإعجاز المكنون في ثنايا تلك الآيات القصيره .
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ )
أشار القران الكريم في أكثر من موضع الى حقيقة عدم اختلاط مياه البحر أو النهر عند التقائها مع مياه متدفقه ذات ملوحه مختلفه لبحر أو لنهر آخر ويعزو النص القرآني السبب الى وجود حاجز ( برزخ ) في منطقة التماس وهو ما نشاهده فعلاً في الطبيعه إذ ترسل المياه العذبه او الاقل ملوحةً لساناً يمتد الى الامام داخل المياه المالحه ويحدث العكس في الاسفل حيث تمتد المياه الاكثر ملوحة الى جهة المياه العذبه وكلما اقتربت إلى القاع كلما إمتدت أكثر فأكثر ، وبنظره جانبيه تبدو المياه العذبه كانها تركب فوق المياه المالحه من القاع الى حيث السطح بشكل مثلث مقلوب ( وتد) ، يُسمّي علم المحيطات هذه الظاهره ب" وتد مائي " water wedge ، تطفو المياه العذبه فوق المالحه بسبب كثافتها المنخفضه ووزنها النوعي الأخف وركوب المياه العذبه على المالحه بشكل وتد سببه الإتزان في الضغط الهيدروستاتي ( ضغط السائل ) الموجهه من قبل كل نوع من المياه نحو النوع الاخر وكلما ازداد العمق كلما كبر مقدار الضغط الهيدروستاتي حتى يصل أقصاه في القاع فتتوغل المياه المالحه أقصى ما يمكن داخل المياه العذبه ، بطبيعة الحال فان الحد الفاصل (البرزخ ) بين المائين متحرك وخاضع لقوى المد والجزر والتيارات المائيه السفليه وقوة اندفاع كل نوع من المياه ،
ليس هذا فحسب فقد أشار الذكر الحكيم الى وجود منطقه فاصله ( حجراً محجوراً ) بين مياه النهر ( عذبٌ فرات ) وبين مياه البحر ( ملحٌ أجاج ) تسمى هذه المنطقه "مَصَّب النهر" Estuary وهي المنطقه الإنتقاليه من النهر المحصور الى البحر المفتوح وتتصاعد نسبة الملوحه فيها من النهر بإتجاه البحر. ولمصب النهر مميزات بيئيه خاصه تجعله حيوياً لسلسلة غذاء اعداد ضخمه من الكائنات الحيه وبضمنها الانسان ، يفرغ النهر حمولته من الرواسب الطينيه الغنيه بالمواد العضويه وتفتات عليها الكائنات الدقيقه وتنمو فتصير غذاءً للمحار( الأصداف البحريه ) ولسرطانات البحر ( تقضي قسم من دورة حياتها في مصبات الانهار ) ولأنواع من الاسماك (مثل السلمون والرنجه ) وما سبق ذكره يصير مصدر غذاء لمستويات أعلى في السلسله الغذائيه كالاسماك الاكبر حجماً ،الطيور البحريه والبريه ( تتزود بالغذاء من مصاب الانهار إثناء هجرتها ) والثدييات ( دببه ، إنسان ..) ،ويوفر مصب النهر بيئه مثاليه لنمو العوالق النباتيه " فيتو بلانكتون" والتي تضبط ( الى جانب النباتات والأشجار) نسبة ثاني اكسيد الكربون والأوكسجين في الطبيعه عن طريق عملية التمثيل الضوئي ، إضافة الى ذلك تحتضن بيئة مصبات الأنهار يرقات لبعض أنواع الأسماك البحرية وهي مصدر ل%87 من المأكولات البحريه في أمريكا ولمصبات الانهار دور رئيسي في ضبط جودة المياه المسكوبه في البحار إذ تنمو في قعر مصبات الانهار وعلى ضفافها مملكه نباتيه مميزه تقوم بتنقية وتحليل ( الى حد كبير ) السموم والملوثات المفرزه في مياه الانهار من الملوثات ونفايات الصناعه قبل سريانها الى البحر.
كانت مصبات الانهار وما زالت من أكثر النظم البيئيه خصوبةً وحيويه لحياة البشر ويكفي ان نعلم ان 60 ٪ من سكان المعموره يقطنون في مدن منتشره على ضفاف مصبات الانهار .
كما رأيتم ان وجود منطقه فاصله بين المياه العذبه والمالحه ( حجراً محجورا) يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على حياة وبقاء جميع انواع الكائنات الحيه ولذلك تنشط في الغرب حركات حماية البيئه الداعيه الى وقف اتلاف بيئة مصاب الانهار بسبب تراكم النفايات فيها والعمل على اصلاحها والحفاظ عليها كمحميات طبيعيه
لقد استعرضت معكم محطتين من محطات القرآن الكريم ذكرتا قبل أكثر من 14 قرناً حقائق وشواهد تتكشف لنا في عصرنا هذا، وما زال البحث مستمراً وما زال القران يذهلنا بأعجازه واتقانه وما زلنا نشعر بوقع عظيم في كل مره نتلو
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق)
المصادر :
القسم الأول
http://www.innerbody.com/image/endoov.html
https://www.britannica.com/science/spermatogenesis
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3826086/pdf/fendo-04-
00174.pdf
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/m/pubmed/24145129/
https://books.google.co.il/books?id=tsvaAgAAQBAJ&pg=PA117&lpg
القسم الثاني
http://www.iupui.edu/~g115/mod14/lecture03.html
http://www.whoi.edu/oceanus/feature/where-the-rivers-meet-the-sea
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Saltwater_intrusion
http://www.elements.nb.ca/theme/estuaries/janice/importance.htm
http://oceanservice.noaa.gov/education/kits/estuaries/estuaries03_ecosystem.html