(لماذا يوجد شر في الحياة )
في العالم المادّي لا يوجد خير و لا شرّ، و لا معنى للظلم و لا العدالة، هناك فقط حتميّة مادّيّة يخضع لها الجميع. بالمقاييس المادّيّة لا يعتبر المجرم مجرما لأنّه مجرّد ضحيّة لجيناته خاضع للحتميّة نفسها الّتي تحكم جزيئاته ، بل إنّ الإنسان مجرّد خلاصة صراع طويل من الصراع و القتل من أجل البقاء.
الأخلاق في نظر الملحد نسبيّة، و عليه فالظّلم الّذي يعتبره الملحد مذموما يراه غيره عين الصّواب، و ما هو شرّ بالنّسبة للبعض يعتبر خيرا يالنّسبة للبعض الآخر.في العالم المادّي الحيواني كلّ شيء يقاس بالمصلحة فإن وافق القتل المصلحة، صار القتل أخلاقيّا.
يبرّر الملحد إنكاره للخالق بوجود الشّرّ، أو بعبارة الملحد: لو كان هناك إله لما سمح بالشّرّ، و نحن نسأله أيّ دستور و أيّ مرجعيّة تجعل وجود الشّرّ و الظّلم مناقض لوجود الله؟ و بأيّ حقّ يُقرّر الملحد ما يجب على الخالق السّماح به و ما لا يجب؟ هل أخذ عهدا من الله؟ هل شهد الخلق و علم الحكمة من الأمور؟
إذا كان يقبل بالقوانين الوضعيّة التعاقديّة الّتي في أحسن أحوالها تعاقب المجرم لكنّها لا تستطيع منع الجريمة، بل إنّ كثيرا من المجرمين غادروا الحياة دون عقاب، و لا عزاء لضحاياهم، فلماذا يعترض الملحد على القانون الإلهي الّذي تعهّد بالعدل المُطلق في الآخرة و الّتي لا يستطيع إنكار وجودها من مبدأ ليس كلّ ما لم يُثبته العلم خرافة؟ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)
لماذا خلق الله الشرّ؟
الله كلّه رحمة وكلّه خير ولم يأمر بالشّر ولكنّه سمح به لحكم عديدة، نعرف بعضها، ونجهل أكثرها (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) و من هذه الحكم الظّاهرة :
1. وهب الله تعالى الإنسان أعظم نعمة، و هي الحريّة : حريّة الإختيار بين فعل الخير و فعل الشّرّ. و حرّيّة الإنسان تقتضي الإتيان بالشّيء و ضدّه، فلا قيمة للحريّة في عالم يُرغم النّاس فيه على فعل الشيء دون القدرة على الإتيان بضدّه. في سنّة الله الحريّة مع الخطأ أكرم من العبوديّة مع الإستقامة ( لَوْ يَشَاء اللَّه لَهَدَى النَّاس جَمِيعًا) فهل يمكن لعقل أن يتصوّر حكومة تحبس النّاس جميعا في زنازن انفراديّة كي تقضي على جرائم القتل؟
2. كمال ربوبية الله تعالى وشموليتها، تقتضي أن يكونُ الله رباً لكلِّ شيء، وخالقاً لكل شيء للخير والشرِّ معاً، و أنه المتفرد بذلك بلا ممانع ولا منازع (ليس كمثله شيء) فكما أن الله تعالى قادر على أن يخلق الخير، وعلى تصريفه كيفما يشاء، وحيث يشاء، فهو قادر على أن يخلق الشر، وعلى تصريفه كيفما يشاء، وحيث يشاء. مع قدرته على إبدال كل شر خيراً. إذا خلق الله الخير فقط ولم يخلق الشر فإن ذلك قد يشير إلى نقص فى قدرته تعالى لأنه يعنى قدرته على خلق الخير فقط أما خلق الشر فإنه يعجزه وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
3. المخلوق يحتاج لمن يجلب له الخير، ويدفع عنه الشر، فلا يستقيم شرعاً ولا عقلاً أن يجد الأولى عند خالقه والأخرى عند غيره تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
4. الدنيا دار عملٍ، واختبارٍ، وبلاء .. وهذا من لوازمه أن يخلق الله تعالى الخير و يسمح بالشّرّ، و جعل الآخرة دار عطاء و جزاء، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ)
5. الشّيء يُعرف بضدّه، فكما أنّ الظّلام دليل على وجود الضّوء، فإنّ الحقّ يُعرف بالباطل، و نعمة الخير تُعرف بشرِّ فقدانها. فإن كان العطش دليل على وجود الماء فإنّ الظّلم دليل على وجود العدل فإن لم يكن في هذه الدّنيا فلا شكّ أنّه يوجد في حياة أخرى.
فكيف تعرف نعمة الصحة .. وأنت لا تعرف المرض .. ولم تجربه ..؟
و كيف تعرف قيمة العدل و تسعى إليه إن لم تعرف الظّلم و لم تجرّبه؟
7. الشرَّ سببٌ للموت .. والإنسان لا بد له من الموت.
8. الله تعالى يُعبد في السّراء والضراء، ويُحب أن يُعبد في الضراء كما يُعبد في السرَّاء، وهذا من لوازمه وجود السّراء والّضراء .. والخير والشر.
9. من مقتضيات ولوازم أسماء الله تعالى وصفاته وجود الخير والشر، فالله تعالى هو الغني الرزاق .. وهذا من مقتضياته ولوازمه وجود الفقير المحتاج الذي يسأل الله تعالى الغنيّ والرزق، فيعطيه. والله تعالى غفور رحيم وهذا من لوازمه ومقتضياته وجود الشر والإثم الذي يحمل صاحبه على طلب الرحمة والمغفرة من ربه فيغفر له ويرحمه. والله تعالى المنتقم الجبار وهذا من لوازمه ومقتضاه وجود الظالمين الّذين ينتقم الله منهم.
وهكذا كل اسم من أسماء الله تعالى تجد أن له مقتضيات في خلقه لا بدّ من ظهورها ووجودها.
10. أن الخير الصّرف يُطغي صاحبه ويُنسيه أن له رباً يُعبد .. كما قال تعالى (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) فيأتي الشر ليُذكره. فالشرُّ في الغالب يأتي بالعبد ليقف بين يدي ربه منكسراً ضارعاً متذللاً ، خائفاً ، باكياً .. يسأله العفو والمغفرة وهذا مطلب شرعي يُحبه الله بخلاف الخير وفعل الخير فإنه ـ في كثير من الأحيان ـ يحمل صاحبه على الغرور.
11. ليندفع به شرٌّ أكبر فكم من شرٍّ يُبتلى به المرء ليندفع به شرٌ أكبر وهو لا يدري، كم من مرة نُبتلى بشرٍّ نسخطه ثم ندرك بعد زمن يشاؤه الله .. أن هذا الشرَّ كان فيه خيراً كثيراً .
فقد يكون المرض سببا للاحتياط و الوقاية تدفع عن الإنسان مرضا أكبر، وما أكثر الأمثلة والشواهد على ذلك من حياتنا اليومية.
12.الشّر يُؤدّب بعضه بعضاً، فينتقم الله من شرٍّ بشرٍّ آخر ، فيُسلّط الظّالمين بعضهم على بعض وهذا هو المراد من قوله صلّى الله عليه و سلّم (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوامٍ لا خلاق لهم) فيدفع الله بهم ظلماً أشد .. وفجوراً أكبر
ونحو ذلك الجهاد فيندفع بشر القتل والقتال شراً أكبر، وفتنة أكبر ليعم الأمن والأمان .. والخير والسلام.
13. من النفوس من تنجح في بلاء الخير دون الشر، ومنها من تنجح في بلاء الشّر دون الخير ، والنّفوس المؤمنة الصّالحة هي التي تنجح في بلاء الخير والشرِّ .. وترضى وتسلم في بلاء الخير والشر وهؤلاء هم الفائزون.
14. الشرّ في بعض صوره يكون لصاحبه طهوراً وكفارة لذنوبه وخطاياه الصبر عليه .. احتساب الأجر .. يرفع صاحبه يوم القيامة درجات ومقامات عالية في الجنان ما كان ليحظى بها لولا البلاء، فيكون سبيلا من سبل التكامل والرقي للإنسان حتّى لتكاد منزلة التقيّ الورع الصّبور أعظم درجة عند الله من الملائكة.
فنقول للإنسان الّذي ألحد بسبب الشّرّ و احتجاجا على حكمة الله الّتي يُنكرها إمّا لغرور و كبر أو لجعل ذلك ذريعة للكفر بالله و بالتّالي التنصّل من الإلتزام الدّيني و تأنيب الضّمير، هل وجدت في الإلحاد بديلا يعوّض الظّلم و يُحقّق العدالة؟