هل تأخر تدوين السنّة حتى عصر البخاري؟
بقلم: شريف محمد جابر
هالَني وأنا أتابع الحالة الثقافية لشعوبنا العربية أنّ هناك سؤالا يظلّ دائم الحضور مهما تم إيضاح المغالطة التي يستندإليها، وهو: لماذا تأخر تدوين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى قرنين بعد وفاته، أي إلى عصر البخاري؟ بل وكثيرا مايُردَف هذا السؤال بسؤال آخر وهو: هل بقيت الأمة لقرنين بغير سنّة وبغير أحاديث؟! وبالطبع فالسؤال الثاني أكثر سذاجة منالأول؛ لأنّ العمل بالسنّة لا يُشترط فيه وجود صحيح البخاري أو غيره من الكتب المصنّفة المبوّبة الجامعة، وقد كان جيلالصحابة يعيشون بالسنّة وهي فاشية بينهم حفظًا وسلوكًا، وكذلك جيل التابعين، فضلا عن الصحف التي دوّنوا فيهاالأحاديث النبوية، وهو ما سنفصّل فيه بعد قليل.
المؤسف في الموضوع هو وجود بعض المسلمين الطيّبين الذين لا يعادون كتب الحديث ولا ينكرون السنن، ولكنهم يجهلون أنّالحديث النبوي قد بدأ تدوينه قبل عصر البخاري بنحو قرن ونصف! ومن أجل ذلك أحببت كتابة هذه التدوينة التي تحاول جمعأسماء مَن بلغنا من أئمة دوّنوا الحديث النبوي وعناوين كتبهم، منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وحتى نهايات القرنالهجري الثاني، أي قبل عصر البخاري؛ لأبيّن تواصل تدوين الحديث الذي كان موازيًا لجهود الحفظ الشفهي الذي عُرف بهالعرب منذ عهد مبكر جدّا.
ستجدون في القائمة التالية ذكرًا لأهمّ جهود التدوين من الأقدم فالأحدث، ومن هؤلاء: صحابة، وتابعون، وتابعوا تابعين،بعضهم وُلد وعاش في القرن الأول الهجري، وبعضهم وُلد في القرن الأول وتوفي في القرن الثاني، وقسمٌ آخر ولد في بداياتالقرن الثاني وتوفي في أواخره أو في مطلع القرن الثالث، أي عندما كان البخاري ما يزال شابا يطلب الحديث! وذلك لتأكيدتواصل كتابة الحديث النبوي وتطوّرها منذ عهد مبكّر مع الحفظ الشفهي المعروف للحديث النبوي، مما يؤكد أنها جهودمتواصلة لم تنقطع يومًا، ولم تبدأ كما يزعم هؤلاء في عصر البخاري، بل كانت ناضجة ومتطوّرة ومتداولة قبل أن يبدأ البخاريبطلب الحديث، ثم ساهم البخاري وجيله من أئمة الحديث بالمزيد من التطوير وتحديدا في مجال تجريد الصحيح المرفوعوالتفنّن في التبويب والتـأليف وفقه التراجم وغير ذلك من ملامح الصناعة الحديثية في القرن الثالث.
وإليكم القائمة بالترتيب الزمني:
الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص (7 ق.هـ – 65): له الصحيفة الصادقة في الحديث.
– صحيفة الصحابي سمرة بن جندب (توفي 60هـ).
– صحيفة الصحابي جابر بن عبد الله (16ق.هـ – 78هـ).
– صحيفة الصحابي نبيط بن شريط الأشجعي الكوفي. مخطوط في الظاهرية (حديث 279)، والقاهرة (حديث 1557). وجزء منها في مسند أحمد.
– صحيفة الأشج، وهو تابعي ولد في خلافة أبي بكر الصديق. مخطوط في شهيد علي 539، وفي القاهرة (حديث 1920).
– صحيفة التابعي خراش بن عبد الله. مخطوط في شهيد علي 539، وفي برلين 1552.
– صحيفة التابعي همّام بن منبه (40؟-131هـ). مخطوط في برلين 1384، والظاهرية مجموع 25/2، وشهيد علي 539.
– أحاديث التابعي أبي الزبير، وكانت صحيفة له. ثم جمعها أبو الشيخ الأصبهاني. مخطوط الظاهرية مجموع 53-3.
ومنعا للإطالة أذكر من التابعين وتابعيهم الذين دوّنوا ما كان يسمى "صحيفة" أو "جزءًا" أو "حديثا": الزبير بن عدي، أبوالعشراء الدارمي، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، أبو بُردة بُريْد حفيد أبي موسى الأشعري، هشام بن عروة بن الزبير،حميد الطويل، زيد بن أبي أنيسة، عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم.
ثم بدأ بعد ذلك عهدٌ آخر من التدوين الأكثر تنظيما في العصر العباسي، ومن هذه المصنفات:
– كتاب "السنن" و"التفسير" لابن جريج (80-150هـ).
– "أحاديث" المثنى بن عبد الله (توفي نحو 150هـ).
– سعيد بن أبي عروبة (70؟-156هـ)، وهو من أوائل من صنّف في الحديث كتبا مبوّبة، روى كتاب "المناسك" عن قتادة، وله"التفسير".
– شعبة بن الحجّاج (82-160هـ)، وهو من أوائل من بوّبوا الحديث في البصرة، وأفرد علما مستقلا لأحوال المحدّثين، ورويعنه "غرائب أحاديث شعبة" لمحمد بن المظفر بن موسى البزاز.
– مُجاعة بن الزبير (كان على قيد الحياة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري)، له "حديث"، مخطوط الظاهرية35/4.
– إبراهيم بن طهمان، أبو سعيد الخراساني (توفي 163هـ)، وصف ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" كتبه بأنها من"صحيح الكتب". وله كتاب مطبوع بعنوان "مشيخة ابن طهمان".
– فُليح بن سليمان (توفي 168 هـ)، قسم من أحاديثه في الظاهرية مجموع 124/7.
– الربيع بن حبيب الفراهيدي (توفي 110 هـ)، له "كتاب الآثار"، دار الكتب بالقاهرة.
– كُلثوم بن محمد بن أبي سدرة الحلبي (توفي تقريبا في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري)، له صحيفة، مخطوطة فيشهيد علي 539.
– جُويرية بن أسماء بن عبيد البصري (توفي 173هـ)، له صحيفة، مخطوطة في شهيد علي 539.
– موطأ مالك بن أنس (93-179هـ).
– جامع معمر بن راشد الأزدي البصري نزيل صنعاء اليمن (95-153هـ).
– أحاديث سفيان بن سعيد الثوري (97-161هـ) التي ما زال بين أيدينا جزء منها ومروياته مبثوثة في الكتب.
– عبد الله بن لهيعة (97-154هـ)، له صحيفة ما تزال محفوظة في بردية في هايدلبرج.
– إسماعيل بن جعفر (130-180هـ)، له جزء في الحديث، مخطوط في كويبرلي 428.
– عبد الله بن المبارك (118-181هـ)، له كتاب "الزهد والرقائق"، "الجهاد"، "المسند"، "كتاب البر والصلة"، لمعظمهامخطوطات متفرقة في العالم ومعظمها مطبوع.
– نسخة إبراهيم بن سعد (108-182/183هـ)، مخطوط في دار الكتب بالقاهرة حديث 1558.
– كتاب الآثار لأبي يوسف القاضي (113-182هـ).
– أمالي أحمد بن حبيب الشجاعي السرخسي، ألفها سنة 184هـ. مخطوط في الظاهرية، مجموع 62-5.
– كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني (131-189هـ).
– جامع ابن وهب الفهري مولاهم المصري (125-197هـ).
– مسند أبي داود الطيالسي (133-204هـ).
– مرويات الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ) المسندة في كتبه المتنوّعة كالأمّ والرسالة واختلاف الحديث.
ومنعا للإطالة أذكر أيضا ممن كتب وصنّف في الحديث من أهل تلك المرحلة: محمد بن فضيل (توفي 195هـ)، سفيان بنعيينة (107-196هـ)، وكيع بن الجراح (129-197هـ) وغيرهم. وقد اعتمدت في معظم الأسماء التي في هذه القائمة علىكتاب "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين رحمه الله، المجلّد الأول – الجزء الأول، قسم الحديث. إلى جانب عناوين أخرىأضفتها، فليراجعه من أراد المزيد من المعلومات عن تلك الكتب والشخصيات، وللتعرف على مصادر سزكين عنها.
ماذا نستفيد من استعراض هذه القائمة؟
نستفيد منها أن تدوين السنّة النبوية بدأ منذ عهد الصحابة، وظلّ متواصلًا ينقل اللاحق عن السابق بالرواية الشفهيةالمعضودة بالنسخ في الكتُب حتى عصر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وأقرانهم من أهل القرن الثالث الهجري، أيالذين ظهرت مصنّفاتهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم بنحو قرنين، ثم استمر الأمر للأجيال التي تلتْ هؤلاء.
ولو طالع الباحث كتب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وأقرانهم لوجد أنّ مادتها مبثوثة فيما ذكرنا من صحف وأجزاءحديثية ومصنّفات متقدّمة عليهم، ولكنهم لم يكتفوا بحفظ هذه النسخ ولم ينقلوها كتابة فقط، بل كان الأساس هو الحفظوالرواية الشفهية، وكانت الكتابة مواكبة لها للمزيد من التدقيق والحفظ.
والنتيجة أنّ من يزعم أنّ تدوين الحديث النبوي قد بدأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بقرنين فهو جاهل لم يطّلع علىالتراث الإسلامي، ويتحدث بغير علم. وبين أيدينا عشرات المجلّدات المحققة المطبوعة في الحديث والآثار جميعُها لأئمة عاشواوماتوا قبل أن يكتب البخاري صحيحه!
ومن يراجع كتب الحديث وعلومه سيدرك أنّ ما ذكرناه هنا هو غيض من فيض، فقد بات تقليد "تقييد العلم بالكتابة" ممارسةشائعة لدى المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين. ومن أراد الاطلاع على ما روي حول هذا التقليد فليقرأ "باب ذكر الرخصةفي كتابة العلم" من كتاب "جامع بيان العلم وفضله" للإمام ابن عبد البرّ، وكتاب "تقييد العلم" للإمام الخطيب البغدادي.