صلح الحُدَيبية
بقلم : محمد سليم مصاروه
صُلح الحُديبية هو صلح عُقد قربَ مكة في منطقة الحديبية في شهر ذي القعدة من العام 6 هـ (628م) بين المسلمين وبين مشركي قريش. كانت السنة التي تلت غزوة الأحزاب 6 هـ في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة لها قوة وهيبة لدى القبائل العربية بما فيهم قريش، وأن قريشًا بدأت تفتقد إلى الأعوان والأحلاف، وبدأ ميزان القوى يتغير لصالح المسلمين على حساب قريش. في شوال من تلك السنة، رأى الرسول ﷺ رؤيا أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين آمنين مطمئنين. فاستبشر ﷺ بذلك وأعلن أنه ينوي المسير إلى مكة لأداء العمرة. خرج مع النبي ﷺ 1400 من المهاجرين والأنصار، وكان معهم سلاح السفر الذي يقي من اخطار السفر فقط، لانَّ نية الرسول ﷺ كانت سِلميَّة وليست للقتال، كذلك دعا ﷺ الأعراب المسلمين حول المدينة المنورة للخروج معه، فبانَ نفاقَهُم حيث تذرَّعوا بشتى الحجج ولم يخرج أحدٌ منهم.
عندما كانوا على بُعد 460 كيلومترًا شمال مكة في منطقة ذي حليفة (آبار علي اليوم) لبس المسلمون رداء الإحرام، ولما وصلوا عسفان 80 كيلومترا شمال مكة، بلغهم أن قريشًا جمعت الجموع لقتالهم ومنعِهم من دخول مكة.
تجنَّب ﷺ القتال، وسلك طريقًا آخر غير الطريق الرئيسي الى أن امتنعت راحلته عن السير في (الحديبية) الواقعة 22 كليومترًا شمال مكة (تُسمّى اليوم بالشميسي).
اعتبر ﷺ ذلك اشارة من السماء بانَّ هذا المكان هو الحَدُّ الأقصى المكتوب لهم في هذه الرحلة.
قامت قريش بإرسال 3 وسطاء على التوالي، كلهم من خارج مكة، الى رسول ﷺ حاملين اليه
رسالة تحذير وتهديد لمنعه من دخول مكة. أكّد ﷺ لكل واحد منهم انَّه والمسلمين قدموا بغرض اداء العمرة، وانَّ أعراف العرب الجاهلية تقضي بالسماح لزوار الكعبة بدخولها آمنين وانَّ هدفه سلميٌ وليس قتاليّ، اضافة الى ذلك لم يبدِ رسول الله ﷺ خوفًا من تهديدات قريش وقال بأنه وصحبه مستعدون للقتال حتى النهاية إذا ما هوجموا. وبنفس الوقت طرح ﷺ على قريش فكرة عقد صلح وهدنة بين الطرفين.
في تلك الاثناء قبض المسلمون على مجموعة من 50 شابًا متهورًا من قريش تسللوا الى مكان المسلمين للإغارة عليهم بهدف احباط اي احتمال لحدوث اتفاقية صلح. لم يمس المسلمون المقبوض عليهم بأذى وأطلقوا سراحهم. فكانت تلك بادرة حُسن نية اخرى من قِبَل الرسول ﷺ تجاه قريش.
بعيد ذلك أرسل ﷺ عثمان بن عفان إلى قريش ليدعوهم الى الاسلام، وليوضح وجهة نظر الرسول ﷺ أكثر من حيث التأكيد على سِلْميَّة نوايا المسلمين وهدفهم التَعَبُّدي، وايضًا اعادة طرح فكرة عقد هدنة واتفاقية صلح. كذلك تواصل عثمان رضي الله عنه مع المسلمين سِرًا وبشرَّهم بنصرٍ وشيك. سمحت قريش لعثمان بالبقاء في مكة، ولكنهم أخرّوه عن الرجوع لمدة ثلاثة ايام، فسرت اشاعة بان قريشًا قتلت عثمان رضي الله عنه.
ساد بين المسلمين جو من التوتر فدعا النبي من معه إلى البيعة فبايعوه تحت شجرة على قتال قريش حتى الموت وذلك بالرغم من عدم توفر الامكانيات القتالية وسُمِيَّت البيعة ببيعة الرضوان أو بيعة الشجرة.
عاد عثمان رضي الله عنه فانتفت الشائعة، وأخبرهم بأنَّ القرشيين قد وافقوا على فكرة الصلح وانه سيأتي رجلٌ منهم ليفاوض ﷺ. كانت بنود صلح الحديبية كالآتي:
1-أن يعود ﷺ ولا يدخل مكّة هذا العام وباستطاعته القدوم العام المقبل لمدة 3 ايام وستُخلي قريش حرم الكعبة للمسلمين طوال تلك المدة.
2-وَقْف القتال بين المسلمين وقريش لعشر سنوات.
3-باستطاعة اي قبيلة الانضمام أما لقريش او لمحمد ﷺ وكل قبيلة مُنضمّة تُعتبر في حماية الطرف المتحالفة معه. لذلك أي عدوان تتعرض له أيٌّ من القبائل يُعَدّ خرقًا واضحًا للاتفاقية ويُعتبَر عدوانًا على الجهة الحامية لتلك القبيلة.
مسموح لأي فرد او جماعة من قريش الخروج والانضمام الى الرسول ﷺ ولكن بشرط ان تأذن قريش لهم بذلك. من جهة ثانية من اراد من المسلمين ان يرتد عن دينه ويعود الى قريش فله ان يفعل ذلك دون إذن من رسول ﷺ.
بخلاف رسول الله، شعر الصحابة رضوان الله عليهم بخيبة الامل والاحباط من بنود المعاهدة، واعتقدوا ان بنود المعاهدة كانت مجحفة. كان احباطهم شديدًا حتى انهم لم يشرعوا في إكمال مراسم العمرة بعد طلب النبي منهم الا بعد أن شرع ﷺ بذلك.
في الحقيقة، صبّت بنود المعاهدة في صالح المسلمين وذلك لأنَّ:
1-رجوع الرسول والمسلمين عن العمرة في ذلك العام يحفظ لقريش نسبيًّا ماء وجهها، ومن جهة ثانية يضمن دخول ﷺ والمسلمين مَكَّة في العام المقبل، دون اي مقاومة او تَعرُّض لهم. وعمليًا هو اعتراف من قِبَل قريش بدولة المسلمين والتي تُفتح لها أبواب مَكَّة مرة في السنة وتخلو لهم الكعبة من المشركين.
2-الهدنة مع قريش ستسمح للمسلمين بنشر الدعوة بحرية اكثر وبتقوية دولتهم ومعاقبة الذين يخططون للفتك بالمسلمين مثل يهود خيبر
3-امكانية انضمام القبائل الي احد من الطرفين ، هو شيء يخدم المسلمين ، لان الانضمام الى قريش كان متاحًا طوال الوقت ولكن الانضمام الى المسلمين كان من شأنه تعريض القبيلة الى اعتداء وعقوبات من المشركين وبهذا البند ازيلت تلك العقبات
4- من مصلحة المجتمع الإسلامي أن يخرجَ منه كل مرتَّدٍ كاره للإسلام والمسلمين فحالته الفكرية، تسمح له بالعمل ضد الإسلام وايذاء المسلمين.
أما بالنسبة لردُّ كل مسلم يفرٌّ من قريش؛ فيه سلبية ظاهرة لمصلحة قريش، ومع ذلك فالمسلم الذي سيرجع إلى مَكَّة قد يصبح مصدرًا للاضطرابات داخلها، فقد يدعو إلى الإسلام فيها، وقد يؤثر على عقليات بعض المشركين وقد يجتمع هو وغيره ممن سيكونون على شاكلته فيصيبون المشركين بأذى داخل مَكَّة أو خارجها، بل قد يخفي إسلامه ويدل على عورات المشركين، ويُحدِث خللاً في داخل صفوفهم، طالما هو غير قابل لدينهم وغير قابل لعبادتهم، ومن ثَمَّ هؤلاء قد يشكلون خطرًا حقيقيًّا على المشركين. وفعلًا بعيد صلح الحُدَيبية تمركزت جماعة من المسلمين الفارّين من قريش وصاروا يقطعون الطريق على قوافلها فطلبت قريش من ﷺ إبطال هذا البند وقبول من يأتيه منهم.