(يوم كان الطبّ بلا لغة غير العربيّة)
بقلم: مؤنس بخاري
في يومنا، تقوم
العديد من الجامعات في البلدان العربية بتدريس الطبّ باللّغات الإنجليزية أو الفرنسية،
وتدعو بعض الجهات العربيّة إلى تعميم حصر تعليم علوم الطبّ باللّغة الإنجليزية، لا
بل تدعو كذلك إلى جعلها لغة تدريس التخصّصات جميعاً، إلّا الأدبيّة. دعوة هذه الجهات
حجّتها زعمٌ أنّ اللّغة العربيّة غير قادرة على حمل العلوم ومعارفها، ولا تسمح بتداولها
بشكل “علمي” لأنّها لغة قديمة تموت. وسأناقش هذه المسألة بتفاصيلها في هذه التدوينة.
لكن، لنعد بالزمن قروناً قليلة، حين كانت اللّغة العربيّة هي لغة تدرس الطبّ في هذا
العالم.
العربيّة، لغة
العلم في أوروبا
في القرون الوسطى،
كانت علوم الطبّ تُدرس في أوروبا باللّغة العربية لأنّها كانت اللّغة التي كُتبت بها
الكثير من الأعمال العلمية والطبّية المتقدّمة في ذلك الوقت. حتّى الدارسين من غير
العرب وغير المسلمين لجأوا إلى نشر أعمالهم وبحوثهم باللّغة العربيّة، أملاً بوصولها
إلى المجتمع العلمي آنذاك. هذا استمرّ حتّى بدأت النصوص العربية تُترجم إلى اللّغة
اللّاتينية على نطاق واسع، ممّا سمح بالوصول إلى هذه المعرفة لأولئك الذين ما كانوا
يتقنون اللّغة العربيّة.
وقبل ترجمة الكتب
العربية إلى اللّغة اللّاتينية، كان العديد من العلماء الأوروپيّين يتعلّمون العربية
للوصول إلى المعرفة العلميّة والطبّية المتقدّمة، التي كانت متاحة في البلاد الإسلاميّة،
والكثير منهم سافر ودرس في جامعات البلاد العربيّة، ليتقن فيها لغة العلوم آنذاك، اللّغة
العربيّة الأكاديميّة، بمصطلحاتها العلميّة الأصليّة، التي يسهل فهمها في الأوساط الأكاديميّة
حول العالم.
بالإضافة إلى
ذلك، كانت المدارس والمكتبات في الدول الإسلامية مراكز للعلماء من جميع أنحاء العالم،
بما في ذلك أوروبا. وما كانت هذه المكتبات محصورة بوجودها في الشرق الأوسط فقط، بل
كانت متاحة كذلك في أماكن بعيدة مثل الأندلس (إسبانيا المعاصرة)، حيث كانت الثقافة
الإسلامية قويّة ومزدهرة. وفي جامعاتها تعلّم العديد من العلماء الأوروپيّين العربية
ودرسوا العلوم والطبّ من الكتب العربيّة.
وكانت الجامعات
العلميّة الأوروبية تتباهى بمكتباتها الخاصّة من الكتب والمخطوطات العربيّة، وتعرضها
وسيلة لتبيان مدى تقدّمها العلمي عن أقرانها. وكانت علوم الطب تُدرس في أوروبا باللّغة
العربية لأنّها كانت اللّغة العلميّة والأكاديميّة آنذاك. لذا، ومع الوقت، أصبحت اللّغة
العربية وسيلة رئيسة لنقل المعرفة الطبّية والعلمية في أوروبا، إلى أن بدأت عمليّات
الترجمة الكبيرة إلى اللّغة اللاتينية فيما بعد.
ومن المراكز المهمّة
في تاريخ أوروبا على محطّات هذا التحوّل كانت جامعة ساليرنو جنوب إيطاليا.
كلّية ساليرنو
الطبّية
جامعة سكولا ميديكا
سالَيرِّتانا Scuola Medica Salernitana أو كلّية ساليرنو الطبّية،
كانت المؤسّسة الطبّية الأولى والأكثر أهمّية في العصور الوسطى في أوروپا. تأسّست هذه
المؤسّسة في القرن التاسع في ساليرنو، وهي مدينة تقع على الساحل الجنوبي للبلاد الإيطالية.
وتقول أسطورة تأسيس هذه الجامعة أنّ أربع أطبّاء اجتمعوا على تأسيسها: مسيحي إغريقي
اسمه ساليرنُس Salernus ومسلم عربي اسمه عبد الله Abdela ومسيحي لاتيني اسمه قسطنطين Constantine ويهودي من المغرب العربي اسمه پونتُس Pontus.
والحكاية رمزيّة
تريد الإشارة إلى أنّ علوم الجامعة جمعت العلم من خلفيّات متوسّطيّة مختلفة، اشتملت
على الطبّ العربي، الطبّ الإغريقي، الطبّ الفنيقي، والطبّ اللّاتيني. ووفقاً للأسطورة،
جاء الطبيب العربي عبد الله من الشرق، وتعرّف باليهودي الفنيقي وهو طبيب مهاجر من الغرب،
فاقترح عليهم تاجر إغريقي محلّي من ساليرنو تأسيس مدرسة لعلوم الطبّ مجتمعة، وعرّفهم
بصديقه، طبيب لاتيني اسمه قسطنطين درس الطبّ في شمال إيطاليا (أو القسطنطينيّة).
طوال أربع قرون، اعتمدت كلّية ساليرنو الطبّية على اللّغة العربية لتدريس الطبّ، وتوافد عليها الطلّاب من كلّ أرجاء أوروبا، يدرسون فيها اللّغة العربية أوّلاً وآداب التصنيف العربية، ثمّ ينتقلون إلى تخصّصات الطبّ المختلفة. التي عُرفت واشتُهرت بسبب مكتبتها الهامّة للأعمال الطبّية العربية، ودراساتها المتعمّقة في الأعشاب والنباتات الطبّية. وتضمّنت مناهج الجامعة مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك الطبّ العمليّ والنظريّ، وكذلك الصيدلة.
وكانت الجامعة
معروفة بمشاركة النساء في التعليم والممارسة الطبّية، على العادات الإسلاميّة العربيّة
التي خالفت العادات الأوروبية، وكان هذا نادراً في ذلك الوقت. وأحد أكثر الشخصيّات
البارزة في هذا المجال هي {تروتولا دي روجيرو} Trotula de Ruggiero.
وكانت طبيبة عالمة في القرن الحادي عشر، اشتُهرت بكتاباتها حول الصحّة النسائية، بما
في ذلك طبّ التوليد والجَمال. ألّفت كتابًا معروفًا يُدعى {تطبيب شغف النساء} Passionibus Mulierum Curandorum (عادةً ما يُشار إليه بـTrotula Major)،
وكان أحد أوائل الكتب الغربيّة التي تناولت صحّة النساء.
أربع قرون من
التنهيض
في القرن 12 بدأت
مظاهر {نهضة القرن الثاني عشر} Renovatio
duodecima حين تأسّست جامعات پاريس وأوكسفورد، وبدأت الدعوات للاتّفاق على دفع اللاتينية
لتكون لغة العلوم الأكاديمية في أوروپا، فحدث الانتقال من اللّغات البرجوازية (مثل
الإنجليزية القديمة واللّغة الفرنسية القديمة) إلى اللّغة اللّاتينية كلغة للعلم والأدب.
وهذا مكّن العلماء من مختلف أنحاء أوروبا من التواصل والتفاهم بشكل أسهل، ودون استعمال
اللّغة العربية.
وفي تلك الفترة
بدأت مناطق مثل طليطلة Toledo في إسبانيا وتولوز Toulouse في قسطانيا (فرنسا حالياً)
بتنظيم مشاريع ترجمة كبيرة لترجمة جميع الكتب من اللّغة العربيّة إلى اللّغة اللاتينيّة،
بغضّ النظر عن موضوع الكتاب. ثمّ إعادة كتابة هذه الترجمة مئات المرّات ونشرها في المكتبات
الأكاديمية في مختلف أنحاء أوروپا. وكان عرب طليطلة من مسلمين ويهود ومسيحيّين، هم
أبرز المشتغلين في مشاريع طليطلة للترجمة من العربيّة إلى اللاتينيّة، بعد أن كانت
طليطلة قد سقطت بين القشتاليّين قبلها بقرن سنة 1085.
هذا العمل التعاوني
أدّى إلى نقل كمّيّة هائلة من المعرفة من العالم الإسلامي إلى أوروبا المسيحيّة، وأدّى
دورًا حاسمًا في تحفيز “نهضة الثاني عشر”. وهذا أدّى بدوره إلى ما يُعرف بـ”النهضة
الأوروپيّة” في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
في القرن 13 قرّرت
جامعة ساليرنو الانضمام إلى الحركة التي دعت إليها في القرن السابق جامعتي پاريس وأوكسفورد.
فبدأت بتدريس علوم الطبّ باللّغة اللاتينية بدلاً عن العربية. ولتحقيق ذلك، شرعت بمشروعها
الخاص لترجمة محتويات مكتبتها الهائلة من اللّغة العربيّة إلى اللاتينيّة. وهو ما ساق
أخيراً إلى تخلّي أوروبا تماماً عن اللّغة العربية كلغة علوم أكاديمية.
مع ذلك، هذا لم
يحم وجود كلّية ساليرنو الطبّية من التدهور والإغلاق. إذ أنّها بقيت في عيون المسيحيّين
الأوروپيّين منصّة للعالم الإسلامي في قارّتهم.
نهاية جامعة ساليرنو
في القرن الثالث
عشر، تأسّست جامعة نابلس (ناپولي) تحت رعاية {الإمبراطوريّة الرومانية المقدّسة للشعب
الألماني} وأتاحت تعليم الطبّ باللّغة اللّاتينيّة. كانت جامعة نابلس مدعومة بشكل قويّ
من الدولة فقدّمت تعليمًا مجانيًا للطلّاب، الذين لا يمكنهم دفع الرسوم الدراسيّة في
كلّية ساليرنو. هذا، بالإضافة إلى الفوضى السياسية والحروب الداخلية في ساليرنو، التي
أضعفت كلّية الطب فيها.
في القرن الخامس
عشر، بدأت كلّية الطبّ في ساليرنو بالتراجع والتدهور. هذا التدهور تسارع مع انتشار
الطاعون في ساليرنو في عام 1656، والذي أدى إلى موت العديد من الأطبّاء والمعلّمين.
في النهاية، سنة 1811 أُغلقت كلّية الطبّ في ساليرنو رسميًّا بموجب قرار من الإمبراطور
الفرنسي ناپليون بونابرت، وفُقدت كمّية هائلة من المخطوطات العربية التي كانت في مكتبها
التراثية، وتوازعتها مكتبات وصناديق جامعي الكنوز في أوروپا.
آخر الإنجازات
المعروفة للجامعة باللّغة العربية هي موسوعة {مبادئ الصحّة الساليرنية} Regimen Sanitatis Salernitanum، وهي مجموعة من النصائح الطبّية كُتبت بالقصائد
الشعرية في العصور الوسطى وتضمّنت نصائح حول النظام الغذائي والحياة اليومية والوقاية
من الأمراض.
العربية، لغة
علم ومعرفة
لنعد الآن إلى
موضوع هذه التدوينة الأوّل وهو زعمٌ البعض من العرب المعاصرين أنّ اللّغة العربيّة
غير قادرة على حمل العلوم ومعارفها، ولا تسمح بتداولها بشكل “علمي” لأنّها لغة قديمة
تموت. فهناك عدّة أسباب تجعل هذه الآراء خاطئة، منها أنّ اللّغة العربيّة ثريّة ومرنة،
يسبقها التاريخ العلميّ للّغة العربيّة، ويلحقها الطلب الحالي على العلوم باللّغة العربية،
وبين أيدينا أمثلة واضحة على نجاحات حديثة في هذا المجال.
اللّغة العربيّة
عريقة وتحتوي على مفردات غنيّة ومتعدّدة التشكيلات ودقيقة في معانيها. بالإضافة إلى
ذلك، هي لغة مرنة قادرة على التوسّع والتطوّر لاحتواء مفردات جديدة ومناقشة موضوعات
علميّة متقدّمة. فإذا احتاجت اللّاتينيّة إلى أربع قرون لتقدر على احتواء الثراء العلمي
للّغة العربيّة، فإنّ العربيّة تمتلك اليوم القدرة على لمّ شمل الإنجليزية والفرنسية
والألمانية واليابانية والصينية والروسية في أقل من أربع عقود. واللّغة العربية كانت
لغة العلم في عصور قديمة، ليست بعيدة، كُتبت فيها الكثير من الرسائل العلميّة والطبّيّة
المتقدّمة. وعلى هذا، هناك الكثير من المصطلحات العلميّة الموجودة بالفعل في اللّغة
العربية. وعليه فلا يوجد عيب تقني يعيق اللّغة العربية عن حمل العلوم الأكاديميّة.
هناك الكثير من
الدول العربية التي تتطلّب الكتب والمواد العلميّة باللّغة العربيّة. هذا الطلب يشجّع
على تطوير اللّغة العربيّة لاحتواء المزيد من المفردات العلميّة والمواضيع المتقدمة.
وهناك الكثير من العلماء العرب المعاصرين الذين استخدموا اللّغة العربيّة في نشر بحوثهم
واكتشافاتهم. وهذا يثبت أنّ اللّغة العربيّة لم تزل قادرة على حمل العلوم والمعرفة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قصر المعرفة في جامعات عربية على لغات أجنبية هو حجب للعلوم
بهذه اللّغات الأجنبية ويحول دون وصول الكثير من العرب إلى المعرفة لا سيّما، الذين
يتحدّثون اللّغة العربيّة فقط. لذا فإنّ الدفع نحو استخدام اللّغة العربيّة في التعليم
والبحث العلميّ ليس ممكنًا فقط، ولكنّه ضروريّ أيضًا.
تحدّيات وفرص
إحدى التحدّيات
الرئيسية التي تواجهها الأكاديميّات العربية اليوم هي أنّ الكثير من المعرفة العلميّة
والطبّية الحديثة تتمثّل في أدبيّات باللّغة الإنجليزية. هذا يعني أن الأطبّاء والباحثين
الذين يتحدّثون العربيّة يحتاجون إلى القدرة على قراءة وفهم الإنجليزية للبقاء على
اطّلاع بالتطوّرات الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الترجمة الدقيقة للمصطلحات
الطبّية الحديثة إلى العربيّة من التحدّيات الكبرى، حين تكون معرفة المترجم بالطبّ
سطحيّة، في الوقت الذي تكون فيه خبرة الطبيب باللّغة العربية سطحيّة.
وعلى الرغم من
التحدّيات، هناك فرص كبيرة للّغة العربيّة في مجال الطبّ. فالعديد من الدراسات أظهرت
أنّ الطلّاب يتعلّمون بشكل أفضل عندما يُدرّسون بلغتهم الأم. فإذا تمّ توفير المزيد
من الموارد الطبّيّة باللّغة العربيّة، سيتعزّز التعلم والتحصيل الأكاديميّ للطلّاب
العرب. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون اللّغة العربيّة جسراً لنقل المعرفة الطبّيّة
إلى المجتمعات العربيّة، وبذلك تحسين الرعاية الصحّيّة في مناطقهم.
حاليًّا، هناك
مبادرات متعدّدة في العالم العربي لتطوير المصادر الطبّيّة باللّغة العربيّة وتعزيز
استخدام اللّغة العربيّة في التعليم الطبّيّ. مثل هذه المبادرات تشمل ترجمة المواد
الطبّيّة إلى العربيّة، وتطوير القواميس الطبّيّة العربيّة، وتوفير التدريب للأطبّاء
والمترجمين في مجال الطبّ. وبالنظر إلى الزيادة في الطلب على التعليم الطبّي باللّغة
العربيّة، يمكن أن يكون هناك فرصة أكبر في المستقبل لتطوير برامج التعليم الطبّي العربيّة.
ويمكن أن تساهم هذه البرامج في تعزيز القدرات البحثيّة والعلميّة في العالم العربي،
وتشجيع التعاون الدولي في مجال البحث الطبّي.
مراجع للاستزادة
للبحث أكثر في
الدور الذي لعبته اللّغة العربية في تطوّر العلوم والطب خلال العصور الوسطى، يمكن الرجوع
إلى المراجع التالية:
1. “العرب وتطوّر العلوم الطبّية”، صالحة المنصور،
الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012.
2. “المدرسة الطبية في ساليرنو: مركز الطب العربي
في أوروبا”، دينيس ريان، مؤسسة الفكر العربي، 1996.
3. “الطب في الإسلام: من القرن الأول حتى نهاية القرن
العشرين”، سيد عبد القادر حسين، دار الكتاب العربي، 2002.
4. “الطب في العصور الوسطى: التاريخ والتطور”، ماري
دون، دار النشر للجامعات، 2011.
5. “العرب وأوروبا: تبادل العلوم والمعرفة”، جون ويلي،
دار الفارابي، 2015.
6. “الطب العربي: تطوره وتأثيره في الغرب”، محمد حسن
الشرفاء، دار النشر للجامعات، 2000.
هذه المراجع بالعربية
ومعلوماتها ليست بالعمق الكاف، لذا قد تحتاج إلى مراجع بالإنجليزية إذا كنت ترغب في
البحث بتفصيل أكبر يسمح بفهم أعمق لتأثير الثقافة العربيّة على التقدّم العلمي والطبّي
خلال العصور الوسطى. ومن جهتي استعنت بالكتب التالية:
1. “Science and Civilization in Islam” by Seyyed Hossein Nasr, 1968.
2. “Medicine in the Middle Ages” by Faith Wallis, Cambridge University
Press, 2010.
3. “Arabic Medicine in the Eleventh Century as Represented in the Works
of Ibn Jazlah” by Martin Levey, 1961.
4. “Islamic Science and the Making of the European Renaissance” by
George Saliba, MIT Press, 2007.
5. “The Arabic Contributions to the English Language: An Historical
Dictionary” by Garland Cannon, 1994.
6. “Islamic Culture and the Medical Arts” by the U.S. National Library
of Medicine.
7. “Medicine and Surgery in the Older Mediterranean World” by Lawrence
Conrad, 1995.
8. “The Physician, Therapist and Surgeon, Ibn al-Quff: An Introduction
to his Life and Works” by Fuat Sezgin, 1986.